الأحد، 14 مارس 2010

جماليات بيانية في حديث سيد الاستغفار


[ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ قَالَ وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ].رواه البخارى

لقد أعلى النبى صلى الله عليه وسلم من شأن الاستغفار ونوه على فضله في أحاديث كثيرة . وفي هذا الحديث ينوه النبى صلى الله عليه وسلم على صيغة معينة للاستغفار جامعة لكل معانى التوبة، بما تحمله من معانى الذل والافتقار إليه سبحانه.

فقد جمع فيه النبى صلى الله عليه وسلم من بديع المعانى وحسن الألفاظ ما يحق له به أن يسمى سيد الاستغفار ، ففيه الإقرار لله وحده بالألوهية ، والعبودية ، والاعتراف بأنه الخالق والإقرار بالعهد الذى أخذه عليه والرجاء بما وعده به والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه وإضافة النعماء إلى موجدها وإضافة الذنب إلى نفسه ورغبته في المغفرة واعترافه بأنه لا يقدر على ذلك إلا هو

ولما كان الشأن في هذا الحديث إعلاء قيمة هذه الصيغة للاستغفار من بين جميع الصيغ ـ لما فيها من معانى الذل والافتقار ـ ناسب ذلك أن يستهل النبى صلى الله عليه وسلم هذا البيان بالأسلوب المجازى فقال (سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ) والسيد في الأصل الرئيس الذى يقصد في الحوائج ويرجع إليه في الأمور ولما كان هذا الدعاء جامعاً لمعانى التوبة كلها استعير له هذا الاسم ولا شك أن سيد القوم أفضلهم وهذا أيضاً سيد الأدعية ، وهو الاستغفار لما فيه من ذكر الله بأكمل الأوصاف وذكر نفسه بأنقص الحالات ، وهو غاية التضرع ونهاية الاستكانة لمن لا يستحقها إلا هو.

وعلى ذلك فصورة الاستعارة ظاهرة حيث شبه أفضلية هذه الصيغة على غيرها بالسيد المقدم في قومه بجامع الفضل في كل ثم تنوسى هذا التشبيه واستعار السيد للأفضل من الصيغ على سبيل الاستعارة الأصلية. وقيمة الاستعارة تظهر في أنها تقوم على المبالغة فهى أعلى مرتبة من التشبيه وأبلغ لأنها بنيت على تناسي التشبيه وادعاء أن المشبه فرد من أفراد المشبه به وهذا أبلغ في دعوى اتحاد الطرفين. ولذا يقول الإمام عبد القاهر في إثبات فضلها :" وأما الاستعارة فسبب ما ترى لها من المزية والفخامة أنك إذا قلت : رأيت أسدا تريد رجلاً شجاعاً كنت قد تلطفت لما أردت إثباته له من فرط الشجاعة حتى جعلتها كالشيء الذي يجب له الثبوت والحصول وكالأمر الذي نصب له دليل يقطع بوجوده وذلك أنه إذا كان أسدا فواجب أن تكون له تلك الشجاعة العظيمة ، وكالمستحيل أو الممتنع أن يعرى عنها وإذا صرحت بالتشبيه فقلت : رأيت رجلا كالأسد كنت قد أثبتها إثبات الشيء يترجح بين أن يكون ، وبين أن لا يكون ولم يكن من حديث الوجوب في شيء"

والأسلوب العام في الحديث هو الأسلوب الخبرى لأنه في الأصل دعاء والدعاء يناسبه عرض الحال وإظهار الذل والافتقار.

وقد جمع هذا الحديث آداب الدعاء التى ينبغى أن يتحلى بها المسلم عندما يناجى ربه ويطلب منه المغفرة، فابتدأ بالثناء على الله عز وجل بما هو أهله من الإقرار له سبحانه بالألوهية، ثم ثنا بوصف حاله بما هو فيه من ذل العبودية والافتقار إليه سبحانه ، فاشتمل الحديث على أربع جمل خبرية في الثناء على الله (أَنْتَ رَبِّي ـ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ـ خَلَقْتَنِي ـ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ) ثم قوبلت هذه الجمل الأربع بمثلها في وصف حال الداعى (َأَنَا عَبْدُكَ ـ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ـ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ ـ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي).

وقد اقتصر الأسلوب الطلبى في هذا الدعاء على جملتين (أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ ـ فَاغْفِرْ لِي) تحيط بهما الأساليب الخبرية من كل جانب مما يدل على التلطف في الدعاء والتوطئة له وإكثار التذلل والاستعطاف قبله وبعده ليحاط بالقبول على قدر إحاطته بالثناء والتذلل.

وقد استهل هذا الاستغفار بقولـه (اللهم أنت ربى) وصيغة اللهم من صيغ النداء الملازمة له والميم المشددة فيها عوض عن (يا).

واستهلاله بالنداء توطئة للدخول على الله بالثناء عليه بقولـه (أنت ربى) وهو إقرار بالربوبية مؤكد بأسلوب القصر بطريق تعريف الطرفين قصر حقيقي تحقيقي ثم أكد هذا الإقرار بإقرار آخر وهو إقرار بالألوهية بإثباتها لله وحده ونفيها عن سواه أيضاً بطريق القصر فقال (لا إله إلا أنت) ليتم التوحيد بأركانه الثلاثة " توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ثم توحيد الأسماء والصفات الذى سيأتى في قولـه (أنت خلقتنى) ولك أن تنظر إلى جمال البيان النبوي حين أخرج معنى الإقرار بالربوبية والإقرار بالألوهية في هذا الأسلوب العجيب ـ أسلوب القصر ـ الذى يدل على تقرر المعنى وتأكده في نفس المتكلم، فابتدأ أولاً بالإقرار بالربوبية عن طريق أسلوب القصر بتعريف الطرفين (أنت ربى) قصر موصوف على صفة قصر حقيقي تحقيقي ليعلن بها ما تقرر في نفسه وصدق بها قلبه من نفى صفة الربوبية عما سوى الله تعالى، ثم يؤكد ذلك بإقرار آخر عن طريق القصر أيضاً بالنفى والاستثناء (لا إله إلا أنت) قصر صفة على موصوف إقراراً بالألوهية له وحده سبحانه. والقصر هنا بالنفى والاستثناء على خلاف الأصل في أن النفى والاستثناء يراعى فيه حال المخاطب،فيكون في أمر ينكره المخاطب أو يشك فيه

ففى الحديث اعتراف بالنعم ، واعتراف بالتقصير في شكرها ، وطلب للمغفرة على ذلك يقول ابن القيم :"جمع بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل، فمشاهدة المنة توجب المحبة والحمد والشكر لولى النعم والإحسان ، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت".

وختم الاستغفار بقولـه (فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ) فهو تعليل لطلب المغفرة وطمع ورجاء في حصول ذلك، وجاء هذا التعليل أيضاً بأسلوب القصر الحقيقي التحقيقي ليؤكد معنى الذل والافتقار إليه سبحانه.

وبعد أن اكتملت صيغة "سيد الاستغفار" جاء التشويق والترغيب في الإكثار من قولها بما أوضح ما أعد من جزاءٍ عظيم وثواب جزيل في الآخرة فقال :( وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ) وكذلك العكس (وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ).

أى جزاء وفضل أعظم من هذا ؟! كلمات بسيطة سهلة على اللسان ومحببة إلى النفوس بما تحمله من الإقرار والاعتراف بفضل المتفضل وذلة المتفضَل عليه، يقولـها العبد ـ على شرط اليقين والتصديق به ـ فإذا مات من يومه دخل الجنة أو قالها من ليل فمات دخل الجنة.

وانظر إلى تأكيد حصول الجزاء حين يلبس المعنى ثوب الشرط وجزاؤه فيترتب الجزاء ترتباً حتمياً على وقوع الشرط ويزيد هذا التأكيد بجعل جواب الشرط جملة اسمية (فهو من أهل الجنة) فهو إبراز لما سيحدث في معرض الثابت المتحقق تأكيداً على الوقوع والحصول.

وبالجملة فإن المتأنى في قراءة الحديث يلحظ المناسبة التامة بين الفواصل ويلحظ الإيقاع الرائع المنبعث من تجانس الألوان البديعية الواردة في الحديث، كالجناس الناقص بين (عهدك ووعدك) وكالسجع بين (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت وأعوذ بك من شر ما صنعت) وبين (أعوذ بك، وأبوء لك) وبين (نعمتك على ،فاغفر لى ) .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق