الثلاثاء، 2 مارس 2010

لطائف بيانية من حديث (أفشوا السلام بينكم)


روى مسلم قال :[ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ]

جاء الإسلام العظيم ـ دين السلام ـ برسالة السلام ، ليقرر المحبة والوئام ، ويقضى على ما تفشي في المجتمعات من تناحر وتقاتل لأتفه الأسباب ، ويغرس أساس الحب والإخاء بين الناس، فجعل السلام سبيلاً إلى المحبة ، والمحبة سبيلاً إلى الإيمان ، والإيمان سبيلاً إلى الجنة.

والجنة هي أعظم غايات المؤمن بعد رضا ربه والحديث الذى بين أيدينا ركيزة أساسية في ذلك، ودعامة من دعائم تأسيس السلام فأول ما يلفت الانتباه في هذا البيان هو استهلاله صلى الله عليه وسلم بالقسم على الرواية الثانية ـ والقسم من المؤكدات اللفظية القوية التى يؤكد بها ما يستحق التأكيد.

"والصحابة صلى الله عليه وسلم يجزمون بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل قول يقولـه ، فهو لا يقسم ـ وحاشاه ـ ليجتذب القلوب لتصديقه وقد كان قبل الرسالة يوصف بالصادق الأمين، إذن ينصرف وجه اليمين إلى أن المحلوف عليه من الأمور المهمة ذات البال التى ينبغى أن يستشرف لها السامع ويتلقاها تلقى الاهتمام، لما تعيه من مدلول دينى خطير في حياة الفرد والمجموع".

والمقام هنا مقام ترسيخ لدعامة مهمة وأساس متين من أساسيات هذا الدين ، فهو صلى الله عليه وسلم بأسلوبه التربوي الرائع يعمق في النفوس عاملاً مهماً من عوامل بناء المجتمع السليم النظيف المبنى على المحبة والإخاء والسلام ، حتى إنه صلى الله عليه وسلم جعل السلام شرطاً للإيمان ، بل جعله شرطاً لدخول الجنة وأكد ذلك بالقسم الصريح.

وبعد أن هيأ النفوس بهذا القسم ألقى إليهم الخبر (لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا) وقد جاء هذا الخبر مؤكداً ـ فوق تأكيده بالقسم ـ بطريق القصر ليؤكد حصر دخول الجنة في المؤمنين، وقد أكد هذا الخبر حتى يتأكد ما ينبنى عليه من كلام بعد ذلك لأن هذه الجملة بمثابة مقدمة تترتب عليها نتيجة، وطريق القصر هنا النفى والاستثناء، والاستثناء هنا تحقق بحتى لأنه يصبح تقديرها بإلا ،وقد برزت قيمة القصر هنا في تمكين الكلام وتقريره بما يحمله في طياته من معنى الإثبات ومعنى النفى وهما يخدمان المعنى. وبهذا ينضم التأكيد بالقصر إلى التأكيد بالقسم ليزيد في تقرير المعنى وتمكينه في النفوس.

ثم تأتى بعد ذلك القضية التى مهد لها النبى صلى الله عليه وسلم بهذه المقدمة ـ وهي الغرض المنوط به الكلام ـ معطوفة بالواو فقال (وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا) أى لا يكمل إيمانكم إلا بالتحاب ، ولا تدخلون الجنة عند دخول أهلها إذا لم تكونوا كذلك. وقد أكد الكلام أيضاً بالقصر لما في القصر من حسم وقطع بالقضية من أقصر طريق.

والذى يلفت الانتباه هنا هو ورود قولـه (وَلاَ تُؤْمِنُوا) بحذف النون على الرغم من أنها من الأفعال الخمسة التى ترفع بثبوت النون ، وظاهر السياق يقتضى إثبات النون ، إلا أن الذى يدقق يجد أن رواية الحديث بهذه الصورة لغة صحيحة معروفة وقد نطق بها أفصح البشر صلى الله عليه وسلم.

ثم انظر إلى أسلوبه صلى الله عليه وسلم في عرضه لهذا الطريق عليهم حين قال (أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ) لقد عرض عليهم السبيل إلى المحبة في أسلوب العرض المملوء بالتحفيز والتشويق إلى معرفة هذا الأمر، ويزيد هذا التحفيز تقديم همزة الاستفهام ـ التى أفادت العرض ـ على حرف العطف، والأصل أن يتقدم حرف العطف لأن أداة الاستفهام جزء من جملة الاستفهام

وانظر إلى دقة استخدامه صلى الله عليه وسلم للألفاظ المعبرة عن معانيها تعبيراً دقيقاً حيث استخدامه لـ(أَفْشُوا السَّلاَمَ) بدلاً من أن يقول ألقوا السلام أو يسلم بعضكم على بعض أو غير ذلك، وكأنه صلى الله عليه وسلم يريد السلام بمفهومه الأشمل وليس المقصور على التحية والسلام، السلام الذى ينبعث من الأعماق يترجم المحبة التى يحملها كل قلب مسلم لأخيه فيشعر معه بالأمن والسكينة والطمأنينة. ليس السلام الذى تسمعه الآذان فتتوجس منه القلوب خيفة.

إنها دعوة الإسلام الراقية إلى السلام ونشر المحبة والوئام ونزع الأحقاد والأدران من القلوب ليعيش المسلمون في الأرض إخواناً لا تحاسد بينهم ولا تباغض

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق